الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فقوله: ليت عينيه سواء يظهر ماذا؟. هل يا ترى يتمنى له أن تكون عينه المريضة مثل السليمة؟ أو يتمنى أن تكون العين السليمة مثل المريضة؟ إذن فالكلام يحتمل الخير والشر، ومثلما حكوا لنا أن واحدًا من الولاة طلب من الخطيب أن يسب سيدنا عليًّا- كرم الله وجهه وآله- وأن يلعنهم على المنبر.فقال الخطيب: اعفني.فقال الوالي: لا، عزمت عليك إلاَّ فعلت.فقال له الخطيب: إن كنت عزمت على إلاّ فعلتُ، فسأصعد المنبر وأقول: طلب مني فلان أن أسب عليًّا فقولوا معي يلعنه الله.فقال له: لا تقل شيئًا. فقد فهم الوالي مقصد الخطيب وقدرته على استعمال الكلام على معنيين.والحق يقول: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ}. وأريد أن تنتبهوا إلى أن أسلوب القرآن يأتي في بعض المواقع بألفاظ واحدة، ولكنه يعدل عن عبارة إلى عبارة، فيخيل لأصحاب النظر السطحية أن الأمر تكرار، ولكنه ليس كذلك، مثلما يقول مرة: {يشترون الضلالة بالهدى} ومرة لا يأتي بالهدى كثمن للضلالة ويقول: {يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ}، ولم يلتفتوا إلى أن هدى الفطرة مطموس عندهم هنا، ومثال آخر هو قول الحق: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41].وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}، فكأن المسألة لها أصل عندهم، فالكلام المنزل من الله وضع- أولا- وضعه الحقيقي ثم أزالوه وبدَّلوه ووضعوا مكانه كلاما غيره مثل تحريفهم الرجم بوضعهم الحد مكانه.أما قوله: {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} فتفيد أنهم رفعوا الكلام المقدس من موضعه الحق ووضعوه موضع الباطل، بالتأويل والتحريف حسب أهوائهم بما اقتضته شهواتهم، فكأنه كانت له مواضع. وهو جدير بها، فحين حرفوه تركوه كالغريب المنقطع الذي لا موضع له، فمرة يبدلون كلام الله بكلام من عندهم، ومرة أخرى يحرفون كلام الله بتأويله حسب أهوائهم.{وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}. فهم يقولون قولًا مسموعًا سمعنا ثم يقولون في أنفسهم إنّا عصينا. فقولهم: {سمعنا وعصينا} ففي نيتهم عصينا، إذن فقولهم سمعنا يعني سماع أذن فقط. إنما عصينا فهي تعني: عصيان التكليف، وهم قالوا بالفعل سمعنا جهرا وقالوا عصينا سِرًّا أو هم قالوا: سمعنا، وهم يضمرون المعصية، {واسمع غير مسمع} ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يُسْمِعُكم، بدليل أنكم قلتم: سمعنا، فماذا تريدون بقولكم: اسمع؟ هل تطلبون أن يسمع منكم لأنه يقول كلامًا لا يعجبكم وستردون عليه، أو أنتم تريدون استخدام كلمة تحتمل وجوهًا فتقلبونها إلى معانٍ لا تليق، مثل قولكم: {غير مُسْمع} ما يسرّك، أو {غير مسمع} أي لا سمعت؛ لأنهم يتمنون له- معاذ الله- الصمم، وقد تكون سبابًا من قولهم: أسمع فلان فلانًا إذا سبّه وشتمه، فالكلام محتمل.{وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} لم يقولوا: {راعنا} من الرعاية بل من الرعونة، فقال: لا. اتركوا هذا اللفظ؛ لأنهم سيأخذون منه كلمة يريدون منها الإساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واللي: هو فتل الشيء، والفتل: توجيه شقي الحبل الذي تفتله عن الاستقامة، وهذا الفتل يعطيه القوة، وهم يعملون هذه العمليات لماذا؟ لأنهم يفهمون أنها تعطي قوة لهم.{لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ}، وما داموا يلوون الكلام عن الاستقامة فهم يريدون شرًّا، لأن الدين جاء استقامة، فساعة يلويه أحد فماذا يرد؟.. إنه يريد {وَطَعْنًا فِي الدِّينِ}، {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا}، وبدلًا من إضمار المعصية يقولون: {وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا} بدلًا من {راعنا}، فـ {انظرنا} لا تحتمل معنى سيئًا.إذن فمعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يخبر أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خصومه يأتون بالألفاظ محتملة لذم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذلك يوضح: احذروا أن تقولوا الألفاظ التي يقولونها؛ لأنهم يريدون فيها جانب الشر وعليكم أن تبتعدوا عن الألفاظ التي يمكن أن تحول إلى شرّ. فلو قالوا سمعنا وأطعنا {وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن}، وساعة تسمع كلمة لكن فلتعلم أن الأمر جاء على خلاف ما يريده المشرع؛ لأنه يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ}، لكنهم لم يقولوا، إذن فالأمر جاء على خلاف مراد المشرع.{وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} واللعن هو: الطرد والإبعاد، فهل تجنىَّ الله عليهم في لعنهم وطردهم؟ لا. هو لم يلعنهم إلا بسبب كفرهم، إذن فلا يقولن أحد: لماذا لعنهم الله وطردهم وما ذنبهم؟ نقول: لا. هو سبحانه لعنهم بسبب كفرهم، إذن فالذي سبق هو كفرهم، وجاء اللعن والطرد نتيجة للكفر.{وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا}. وساعة تسمع نفي حدث {لا يؤمنون} ثم يأتي استثناء {إلا}، فهو يثبت بعض الحدث، تقول مثلًا لا يأكل إلا قليلًا، كلمة لا يأكل نفت الأكل، {وإلا قليلًا} أثبتت بعض الأكل، فهو سبحانه يقول: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا}. والإيمان حدث يقتضي محدثًا هو: من آمن، إذن، فعندي حدث وفاعل الحدث، فساعة تسمع استثناء تقول: هذا الاستثناء صالح أن يكون للحدث، وصالح أن يكون لفاعل الحدث، كلمة {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلًا} تعني: فلا يؤمنون إلا إيمانًا قليلًا؛ لأنهم يؤمنون قليلًا بالصلاة، وبأنهم لا يعملون يوم السبت، أما بقية مطلوبات الإيمان فليست في بالهم ولا يؤدونها، أو فلا يؤمنون إلا قليلًا فقد يكون بعض منهم هو الذي يؤمن، وهذا صحيح عندما نقوله؛ لأن بعضا منهم آمن بالفعل، ونجد أيضًا أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فيكون إيمانهم قليلًا بالحدث نفسه.وهناك أناس منهم بعدما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتُلى القرآن ورأوا صورته فوجدوه مثلما وُصف عندهم تماما فآمنوا، ولكن هل آمن كل يهود، أو آمن قليل منهم؟ آمن قليل منهم مثل: عبد الله بن سَلاَم، وكعب الأحبار، إنما عبد الله بن صُورْيَا، وكعب بن أسد، وكعب بن الأشرف وغيرهم من اليهود فلم يؤمنوا.إذن فإن أردت أن بعضًا {قليلًا منهم} هو الذي آمن فهذا صحيح، ويصح أيضًا أن الكافرين منهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وفي ذلك تعبير من الحق سبحانه وتعالى نسميه صيانة الاحتمال؛ لأن القرآن ساعة ينزل بمثل هذا القول فمن الجائز- وهذا ما حدث- أن هناك أناسًا من اليهود يفكرون في أنهم يعلنون الإيمان برسول الله، فلو قال: {فلا يؤمنون} فقد لكان من الصعب عليهم أن يعلنون الإيمان- لكن عندما يقول: {إلا قليلًا} فالذي عنده فكرة عن الإيمان يعرف أن الذي يخبر هذا الإخبار عالم بدخائل النفوس، فصان بالاحتمال إعلان هؤلاء القلة للإيمان. اهـ.
والفراء يجعل المبتدأ المحذوف اسمًا موصولًا، و{يُحَرّفُونَ} صلته أي: من الذين هادوا من يحرفون والبصريون يمنعون حذف الموصول مع بقاء صلته إلا أنه يؤيده ما في مصحف حفصة رضي الله تعالى عنها مَن يحرفون واعترض هذا أيضًا بأنه يقتضي بظاهره كون الفريق السابق بمعزل من التحريف الذي هو المصداق لاشترائهم في الحقيقة، والكلم اسم جنس واحده كلمة كلبنة ولبن، ونبقة ونبق وقيل: جمع وليس بشيء على المختار ولعل من أطلقه عليه أراد المعنى اللغوي أعني ما يدل على ما فوق الإثنين مطلقًا، وتذكير ضميره باعتبار أفراده لفظًا، وجمعيته باعتبار تعدده معنى، وقرئ بكسر الكاف وسكون اللام جمع كلمة تخفيف كلمة بنقل كسرة اللام إلى الكاف، وقرئ {يُحَرّفُونَ}، والمراد به هاهنا إما ما في التوراة وإما ما هو أعم منه، ومما سيحكي عنهم من الكلمات الواقعة منهم في أثناء محاورتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والأول: هو المأثور عن السلف كابن عباس ومجاهد وغيرهما، وتحريف ذلك إما إزالته عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها من التوراة كتحريفهم ربعة في نعت النبي صلى الله عليه وسلم، ووضعهم مكانه طوال، وكتحريفهم الرجم ووضع الحد موضعه، وإما صرفه عن المعنى الذي أنزله الله تعالى فيه إلى ما لا صحة له بالتأويلات الفاسدة والتمحلات الزائغة كما تفعله المبتدعة في الآيات القرآنية المخالفة لمذهبهم، ويؤيد الأول ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسوله أحدث تقرءونه محضًا لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله تعالى وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا، واستشكل بأنه كيف يمكن ذلك في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر وانتشرت نسخه شرقًا وغربا؟
|